بينما كانت السيارة تقطع الطريق بسرعة توقفت عيناى لتتابعهم، صغارا كانوا.. أجسادهم نحيلة.. آثار التعب والجوع كانت واضحة تشى بها وجوههم.. ملابسهم الرثة المتسخة تكشف طبيعة حياتهم التى لاتعرف غير الطرقات والشوارع مأوى.. رغم سوء حالتهم التى عكستها خطاهم البطيئة المتعثرة إلا أن الإبتسامة لم تفارق وجوههم.. كادت تصل لضحكات أكاد أسمعها.. لا أعرف بالضبط ما الذى يضحكهم وإن كان من المؤكد أنه لايمتآ لمشاعر الفرحة والبهجة بصلة.. كانت مشاعرهم أقرب للإستسلام أو اللامبالاة، إستسلام للقيود الحديدية التى تلتف حول معصمهم، ولكلمات رجل الشرطة الحاسمة التى تلزمهم بإسراع الخطى وركوب السيارة التى من الواضح أنها ستقلهم لمراكز الأحداث.
ردود فعلهم بدت غريبة عن قرناء لهم إلتقيت بهم من سنوات طويلة داخل أحد أقسام الشرطة.. علامات الخوف والفزع تنطق به كل ملامحهم.. كانت الدموع تسبق كلماتهم ثم تتوقف فجأة لتسرح فى مصير مجهول يبدو أشد قسوة ومرارة من قسوة الشارع ومرارته، مازال فى نفوسهم شيء ما يربطهم بمشاعر الطفولة التى لم يتذوقوها وحرموا منها رغما عنهم..على عكس حال هؤلاء المبتسمين فى إستسلام.. يبدو أنهم لم يسلموا من رياح التغيير الذى أصابتنا جميعا وتركت بصماتها الواضحة على سلوكنا وردود افعالنا وتعاملاتنا.. فبدا مصيرهم المظلم لايقل قتامة عن سواد ايامهم.. وكأن لسان حالهم يقول ما الذى يمكن أن يقابلنا أسوأ مما نحن فيه.. جوع، انتهاك لآدمية، غلظة، تكبر، قسوة، حرمان ..أصبحت كلها أمور عادية.. نقابلها باستسلام كأنه قدر أو إبتسامة كوسيلة للتجاهل والإنكار والتحدى.. ما الذى يدفعنا للخوف والفزع ونحن لم نتذوق يوما طعما للراحة والأمان.. على هامش الحياة نعيش وسنظل على هامشها.. تتابعنا العيون بتوجس وخوف أو إستعلاء وتكبر وقرف بينما ينظر إلينا آخرون بشفقة عاجزة لاتسمن ولاتغنى من جوع ولاتغير حالنا للأحسن.. يتذكروننا فجأة إذا ما ارتكب أحدنا جريمة مفزعة ثم يتجاهلوننا كأنهم يقرون بصمت على جرائمنا المعتادة.. حالهم لايبدو غريبا، بميزان عدالتهم مختل لصالح الأفسد.. النابه منا من يدرك ذلك.. يعرف أن الفاسدين الكبار يحتاجون لأمثالنا، نقدم لهم الخدمات ونصبح فيما بعد رجالهم المخلصين.. ومع الأيام يتبدل حالنا، نصبح أكثر أناقة وغنى.. نسكن بيوتا مريحة وتضمنا جدرانها الرحبة وننسى فيها شعورا بالضياع وسنوات من العذاب عشنا فيها على هامش الحياة .. فلماذا لانبتسم!
كم من لصوص كبار نجوا من المساءلة والعقاب، وكم من فاسدين ترفع لهم القبعات ويشار لهم بالبنان.. وكم من مجرمين تواروا خلف ثيابهم الأنيقة وعطورهم الفخمة وأصبحوا ملء الأسماع والأبصار وإحتلوا سماء المجتمع فأصبحوا نجومه المتلالئة.. هؤلاء قدوتنا، مثلنا الأعلى الذى لا يغيب عنا.
ربما يصبح أحدنا مثلهم، ليس غريبا ولابعيدا فى مثل هذا الزمان .. فلماذا لانبتسم، مازلنا فى سنة أولى إجرام والمستقبل لنا! "كلنا مجرمون وكلنا ضحايا ".. رحم الله نجيب محفوظ.
-----------------
بقلم: هالة فؤاد